بقلم: د. جابر قميحة
كان "كونفوشيوس" الفيلسوف والحكيم الصيني يعلِّم تلاميذه بطريقة عملية،
فيسير بهم في الطبيعة، مستخلصًا منها دروسًا وعظات وتوجيهات، ويُقال إنه قاد تلاميذه
في جولة في إحدى الغابات، وبعد أن توغلوا فيها رأى امرأةً تجلس ومعها طفل لا يجاوز العاشرة
أمام كوخ من أغصان الشجر، فسألها: أتقيمين هنا منذ مدة طويلة يا سيدتي؟ فقالت: نعم،
ولم أبرحها بعد أن أكل الأسد زوجي.. سألها ومتى كان ذلك؟ أجابت: بعد أن مزَّق الأسد ابني الأكبر..
سألها الفيلسوف في أسى ظاهر: وما الذي يبقيك هنا في هذه الأرض المسبعة؟ (أي كثيرة السباع)..
أجابت: يبقيني هنا أنه ليس فيها حاكم ظالم.. فالتفت الفيلسوف إلى تلاميذه وقال:
"حقًّا، فالحاكم الظالم أشد وحشية وقسوة من الأسد الكاسر".فالحياة لا تستقر، ولا تهنأ تحت وطأة الظلم،
ولكن تحت مظلة العدل تكون الحياة الحقيقية الجديرة بالإنسان.. وصدق الله سبحانه وتعالى إذ قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)﴾ (النساء).
وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة).
والرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة؛ "لأن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد".
ومما يُروى عن الخليفة عمر بن عبد العزيز: أن حاكم عكا طلب منه مالاً ليبني به سورًا
يحصِّن به المدينة في وجه الأعداء، فوقَّع على طلبه بكلمتين هما: "حصِّنها بالعدل".
وهذا يدل على تقدير حكيم، ونظرة صائبة من الخليفة الشاب؛ لأن ألف حصن وحصن، وألف جدار وجدار
لن تحمي مدينة يعيش أهلها مخلوعي القلوب، مرعوشي النفوس تحت وطأة ظلم حاكمها،
بل قد يكون منهم من يتحول إلى طابور خامس للأعداء.
وقد فضل الفقهاء، للمسلم الحياة في ظل سلطان عادل ولو كان كافرًا،
وقد ذمَّ الإسلام كل أنواع الظلم كما نرى في قوله تعالى:
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ " (193)﴾ (البقرة).
وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)﴾ (آل عمران).
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾ (لقمان).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾ (فاطر).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)﴾ (النساء).
وقد قال تعالى في حديث قدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شر الرعاء الحطمَة".
أي الحاكم الظالم الذي يخرب حياة الناس ويحطم واقعهم وآمالهم، وهي من جوامع الكلم؛ ل
أن كلمة الحطمة لم تطلق في القرآن إلا في سورة واحدة، وذلك في قوله تعالى:
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ
(4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)﴾ (الهمزة).
والظلم أنواع: فهناك ظلم الإنسان لغيره، وهناك ظلم الإنسان لنفسه،
ويعني أن يظلم الشخص غيره أو يشرك بالله، فينعكس عليه ذلك عقاب،
كما نجد في قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)﴾ (الكهف).
فكانت النتيجة كما نجدها في الآيتين الآتيتين:
﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)﴾ (الكهف).
والظلم خليقة جاهلية، فكان الجاهليون يفخرون بالظلم بكل أنواعه، كما نرى في قول عمرو ابن كلثوم:
بغاة ظالمين وما ظُلمنا ولكنا سنبدأ ظالمينا
وتحت وطأة الظلم تختل الطبائع، وتنهار الأخلاقيات وتنقلب القيم حتى يسمى الباطل حقًّا، والحق باطلاً..
وتحت وطأة الظلم تختل الطبائع، وتنهار الأخلاقيات وتنقلب القيم حتى يسمى الباطل حقًّا، والحق باطلاً..
وصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال "يأتي على الناس زمان يكون صالح الحي
من لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، إن غضبوا غضبوا لأنفسهم، وإن رضوا رضوا لأنفسهم،
لا يغضبون لله، ولا يرضون لله عزَّ وجلَّ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يسرنا تعليقك على مدونتنا أبوصير أون لاين